فصل: فَصْلٌ: في الْغُسْلِ:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع (نسخة منقحة)



.مَطْلَبُ مَسِّ الْمُصْحَفِ:

(وَأَمَّا) الثَّانِي، وَهُوَ بَيَانُ حُكْمِ الْحَدَثِ فَلِلْحَدَثِ أَحْكَامٌ، وَهِيَ أَنْ لَا يَجُوزَ لِلْمُحْدِثِ أَدَاءُ الصَّلَاةِ لِفَقْدِ شَرْطِ جَوَازِهَا، وَهُوَ الْوُضُوءُ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا صَلَاةَ إلَّا بِوُضُوءٍ»، وَلَا مَسُّ الْمُصْحَفِ مِنْ غَيْرِ غُلَافٍ عِنْدَنَا، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ يُبَاحُ لَهُ مَسُّ الْمُصْحَفِ مِنْ غَيْرِ غُلَافٍ وَقَاسَ الْمَسَّ عَلَى الْقِرَاءَةِ فَقَالَ: يَجُوزُ لَهُ الْقِرَاءَةُ فَيَجُوزُ لَهُ الْمَسُّ.
(وَلَنَا) قَوْله تَعَالَى: {لَا يَمَسُّهُ إلَّا الْمُطَهَّرُونَ} وَقَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا يَمَسُّ الْقُرْآنَ إلَّا طَاهِرٌ»، وَلِأَنَّ تَعْظِيمَ الْقُرْآنِ وَاجِبٌ، وَلَيْسَ مِنْ التَّعْظِيمِ مَسُّ الْمُصْحَفِ بِيَدٍ حَلَّهَا حَدَثٌ، وَاعْتِبَارُ الْمَسِّ بِالْقِرَاءَةِ غَيْرُ سَدِيدٍ، لِأَنَّ حُكْمَ الْحَدَثِ لَمْ يَظْهَرْ فِي الْفَمِ وَظَهَرَ فِي الْيَدِ بِدَلِيلٍ أَنَّهُ افْتَرَضَ غَسْلَ الْيَدِ، وَلَمْ يَفْتَرِضْ غَسْلَ الْفَمِ فِي الْحَدَثِ فَبَطَلَ الِاعْتِبَارُ، وَلَا مَسُّ الدَّرَاهِمِ الَّتِي عَلَيْهَا الْقُرْآنُ، لِأَنَّ حُرْمَةَ الْمُصْحَفِ كَحُرْمَةِ مَا كُتِبَ مِنْهُ فَيَسْتَوِي فِيهِ الْكِتَابَةُ فِي الْمُصْحَفِ، وَعَلَى الدَّرَاهِمِ، وَلَا مَسُّ كِتَابِ التَّفْسِيرِ، لِأَنَّهُ يَصِيرُ بِمَسِّهِ مَاسًّا لِلْقُرْآنِ.
وَأَمَّا مَسُّ كِتَابِ الْفِقْهِ، فَلَا بَأْسَ بِهِ وَالْمُسْتَحَبُّ لَهُ أَنْ لَا يَفْعَلَ، وَلَا يَطُوفُ بِالْبَيْتِ.
وَإِنْ طَافَ جَازَ مَعَ النُّقْصَانِ لِأَنَّ الطَّوَافَ بِالْبَيْتِ شَبِيهٌ بِالصَّلَاةِ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الطَّوَافُ بِالْبَيْتِ صَلَاةٌ»، وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَيْسَ بِصَلَاةٍ حَقِيقِيَّةٍ فَلِكَوْنِهِ طَوَافًا حَقِيقَةً يَحْكُمُ بِالْجَوَازِ، وَلِكَوْنِهِ شَبِيهًا بِالصَّلَاةِ يُحْكَمَ بِالْكَرَاهَةِ.
ثُمَّ ذَكَرَ الْغِلَافَ، وَلَمْ يَذْكُرْ تَفْسِيرَهُ، وَاخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ فِي تَفْسِيرِهِ فَقَالَ بَعْضُهُمْ: هُوَ الْجِلْدُ الْمُتَّصِلُ بِالْمُصْحَفِ وَقَالَ بَعْضُهُمْ: هُوَ الْكُمُّ، وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ الْغِلَافُ الْمُنْفَصِلُ عَنْ الْمُصْحَفِ، وَهُوَ الَّذِي يُجْعَلُ فِيهِ الْمُصْحَفُ وَقَدْ يَكُونُ مِنْ الْجِلْدِ وَقَدْ يَكُونُ مِنْ الثَّوْبِ، وَهُوَ الْخَرِيطَةُ، لِأَنَّ الْمُتَّصِلَ بِهِ تَبَعٌ لَهُ فَكَانَ مَسُّهُ مَسًّا لِلْقُرْآنِ، وَلِهَذَا لَوْ لِبَيْعِ الْمُصْحَفُ دَخَلَ الْمُتَّصِلُ بِهِ فِي الْبَيْعِ، وَالْكُمُّ تَبَعٌ لِلْحَامِلِ فَأَمَّا الْمُنْفَصِلُ فَلَيْسَ بِتَبَعٍ، حَتَّى لَا يَدْخُلَ فِي بَيْعِ الْمُصْحَفِ مِنْ غَيْرِ شَرْطٍ.
وَقَالَ بَعْضُ مَشَايِخِنَا: إنَّمَا يُكْرَهُ لَهُ مَسُّ الْمَوْضِعِ الْمَكْتُوبِ دُونَ الْحَوَاشِي، لِأَنَّهُ لَمْ يَمَسَّ الْقُرْآنَ حَقِيقَةً، وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ يُكْرَهُ مَسُّ كُلِّهِ، لِأَنَّ الْحَوَاشِيَ تَابِعَةٌ لِلْمَكْتُوبِ فَكَانَ مَسُّهَا مَسًّا لِلْمَكْتُوبِ، وَيُبَاحُ لَهُ قِرَاءَةُ الْقُرْآنِ لِمَا رُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «كَانَ لَا يَحْجِزُهُ عَنْ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ شَيْءٌ إلَّا الْجَنَابَةُ».
وَيُبَاحُ لَهُ دُخُولُ الْمَسْجِدِ، لِأَنَّ وُفُودَ الْمُشْرِكِينَ كَانُوا يَأْتُونَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ فِي الْمَسْجِدِ فَيَدْخُلُونَ عَلَيْهِ، وَلَمْ يَمْنَعْهُمْ مِنْ ذَلِكَ، وَيَجِبُ عَلَيْهِ الصَّوْمُ، وَالصَّلَاةُ حَتَّى يَجِبَ قَضَاؤُهُمَا بِالتَّرْكِ لِأَنَّ الْحَدَثَ لَا يُنَافِي أَهْلِيَّةَ أَدَاءِ الصَّوْمِ، فَلَا يُنَافِي أَهْلِيَّةَ وُجُوبِهِ، وَلَا يُنَافِي أَهْلِيَّةَ وُجُوبِ الصَّلَاةِ أَيْضًا، وَإِنْ كَانَ يُنَافِي أَهْلِيَّةَ أَدَائِهَا، لِأَنَّهُ يُمْكِنُهُ رَفْعُهُ بِالطَّهَارَةِ.

.فَصْلٌ: في الْغُسْلِ:

وَأَمَّا الْغُسْلُ فَالْكَلَامُ فِيهِ يَقَعُ فِي مَوَاضِعَ فِي تَفْسِيرِ الْغُسْلِ، وَفِي بَيَانِ رُكْنِهِ، وَفِي بَيَانِ شَرَائِطِ الرُّكْنِ، وَفِي بَيَانِ سُنَنِ الْغُسْلِ، وَفِي بَيَانِ آدَابِهِ، وَفِي بَيَانِ مِقْدَارِ الْمَاءِ الَّذِي يُغْسَلُ بِهِ، وَفِي بَيَانِ صِفَة الْغُسْلِ الْمَشْرُوعِ.
(أَمَّا) تَفْسِيرُهُ فَالْغُسْلُ فِي اللُّغَةِ اسْمٌ لِلْمَاءِ الَّذِي يُغْتَسَلُ بِهِ لَكِنْ فِي عُرْفِ الْفُقَهَاءِ يُرَادُ بِهِ غَسْلُ الْبَدَنِ، وَقَدْ مَرَّ تَفْسِيرُ الْغَسْلِ فِيمَا تَقَدَّمَ أَنَّهُ الْإِسَالَةُ، حَتَّى لَا يَجُوزُ بِدُونِهَا.
(وَأَمَّا) رُكْنُهُ فَهُوَ إسَالَةُ الْمَاءِ عَلَى جَمِيعِ مَا يُمْكِنُ إسَالَتُهُ عَلَيْهِ مِنْ الْبَدَنِ مِنْ غَيْرِ حَرَجٍ مَرَّةً وَاحِدَةً حَتَّى لَوْ بَقِيَتْ لُمْعَةٌ لَمْ يُصِبْهَا الْمَاءُ لَمْ يَجُزْ الْغُسْلُ، وَإِنْ كَانَتْ يَسِيرَةً لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا}، أَيْ: طَهِّرُوا أَبْدَانَكُمْ، وَاسْمُ الْبَدَنِ يَقَعُ عَلَى الظَّاهِرِ، وَالْبَاطِنِ فَيَجِبُ تَطْهِيرُ مَا يُمْكِنُ تَطْهِيرُهُ مِنْهُ بِلَا حَرَجٍ، وَلِهَذَا وَجَبَتْ الْمَضْمَضَةُ، وَالِاسْتِنْشَاقُ فِي الْغُسْلِ، لِأَنَّ إيصَالَ الْمَاءِ إلَى دَاخِلِ الْفَمِ، وَالْأَنْفِ مُمْكِنٌ بِلَا حَرَجٍ، وَإِنَّمَا لَا يَجِبَانِ فِي الْوُضُوءِ لَا، لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ إيصَالُ الْمَاءِ إلَيْهِ بَلْ، لِأَنَّ الْوَاجِبَ هُنَاكَ غَسْلُ الْوَجْهِ، وَلَا تَقَعُ الْمُوَاجِهَةُ إلَى ذَلِكَ رَأْسًا، وَيَجِبُ إيصَالُ الْمَاءِ إلَى أَثْنَاءِ اللِّحْيَةِ كَمَا يَجِبُ إلَى أُصُولِهَا، وَكَذَا يَجِبُ عَلَى الْمَرْأَةِ إيصَالُ الْمَاءِ إلَى أَثْنَاءِ شَعْرِهَا إذَا كَانَ مَنْقُوضًا كَذَا ذَكَرَ الْفَقِيهُ أَبُو جَعْفَرٍ الْهِنْدُوَانِيُّ لِأَنَّهُ يُمْكِنُ إيصَالُ الْمَاءِ إلَى ذَلِكَ مِنْ غَيْرِ حَرَجٍ.
وَأَمَّا إذَا كَانَ شَعْرُهَا ضَفِيرًا فَهَلْ يَجِبُ عَلَيْهَا إيصَالُ الْمَاءِ إلَى أَثْنَائِهِ اخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ فِيهِ قَالَ بَعْضُهُمْ: يَجِبُ لِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «تَحْتَ كُلِّ شَعْرَةٍ جَنَابَةٌ أَلَا فَبُلُّوا الشَّعْرَ، وَأَنْقُوا الْبَشَرَةَ».
وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَا يَجِبُ، وَهُوَ اخْتِيَارُ الشَّيْخِ الْإِمَامِ أَبِي بَكْرٍ مُحَمَّدِ بْنِ الْفَضْلِ الْبُخَارِيِّ وَهُوَ الْأَصَحُّ لِمَا رُوِيَ: «أَنَّ أُمَّ سَلَمَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا سَأَلَتْ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَتْ: إنِّي أَشُدُّ ضَفْرَ رَأْسِي أَفَأَنْقُضُهُ إذَا اغْتَسَلْت فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَفِيضِي الْمَاءَ عَلَى رَأْسِك، وَسَائِرِ جَسَدِك، وَيَكْفِيك إذَا بَلَغَ الْمَاءُ أُصُولَ شَعْرِك»، وَلِأَنَّ ضَفِيرَتَهَا إذَا كَانَتْ مَشْدُودَةً فَتَكْلِيفُهَا نَقْضُهَا يُؤَدِّي إلَى الْحَرَجِ، وَلَا حَرَجَ حَالَ كَوْنِهَا مَنْقُوضَةٌ، وَالْحَدِيثُ مَحْمُولٌ عَلَى هَذِهِ الْحَالَةِ.
وَيَجِبُ إيصَالُ الْمَاءِ إلَى دَاخِلِ السُّرَّةِ لِإِمْكَانِ الْإِيصَالِ إلَيْهَا بِلَا حَرَجٍ، وَيَنْبَغِي أَنْ يُدْخِلَ أُصْبُعَهُ فِيهَا لِلْمُبَالَغَةِ، وَيَجِبُ عَلَى الْمَرْأَةِ غَسْلُ الْفَرْجِ الْخَارِجِ؛ لِأَنَّهُ يُمْكِنُ غَسْلُهُ بِلَا حَرَجٍ.
وَكَذَا الْأَقْلَفُ يَجِبُ عَلَيْهِ إيصَالُ الْمَاءِ إلَى الْقُلْفَةِ وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَا يَجِبُ، وَلَيْسَ بِصَحِيحٍ لِإِمْكَانِ إيصَالُ الْمَاءِ إلَيْهِ مِنْ غَيْرِ حَرَجٍ.
(وَأَمَّا) شُرُوطُهُ فَمَا ذَكَرْنَا فِي الْوُضُوءِ.

.سُنَنُ الْغُسْلِ:

(وَأَمَّا) سُنَنُهُ فَهِيَ أَنْ يَبْدَأَ فَيَأْخُذَ الْإِنَاءَ بِشِمَالِهِ، وَيَكْفِيهِ عَلَى يَمِينِهِ فَيَغْسِلُ يَدَيْهِ إلَى الرُّسْغَيْنِ ثَلَاثًا، ثُمَّ يُفْرِغُ الْمَاءَ بِيَمِينِهِ عَلَى شِمَالِهِ فَيَغْسِلُ فَرْجَهُ، حَتَّى يُنَقِّيَهُ، ثُمَّ يَتَوَضَّأُ وُضُوءَهُ لِلصَّلَاةِ ثَلَاثًا ثَلَاثًا إلَّا أَنَّهُ لَا يَغْسِلُ رِجْلَيْهِ، حَتَّى يُفِيضَ الْمَاءَ عَلَى رَأْسِهِ، وَسَائِرِ جَسَدِهِ ثَلَاثًا ثُمَّ يَتَنَحَّى فَيَغْسِلُ قَدَمَيْهِ، وَالْأَصْلُ فِيهِ مَا رُوِيَ عَنْ مَيْمُونَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهَا قَالَتْ: «وَضَعْتُ غُسْلًا لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِيَغْتَسِلَ مِنْ الْجَنَابَةِ فَأَخَذَ الْإِنَاءَ بِشِمَالِهِ، وَأَكْفَأَهُ عَلَى يَمِينِهِ فَغَسَلَ يَدَيْهِ ثَلَاثًا، ثُمَّ أَنْقَى فَرْجَهُ بِالْمَاءِ، ثُمَّ مَالَ بِيَدِهِ إلَى الْحَائِطِ فَدَلَّكَهَا بِالتُّرَابِ ثُمَّ تَوَضَّأَ وُضُوءَهُ لِلصَّلَاةِ غَيْرَ غَسْلِ الْقَدَمَيْنِ، ثُمَّ أَفَاضَ الْمَاءَ عَلَى رَأْسِهِ، وَسَائِرِ جَسَدِهِ ثَلَاثًا، ثُمَّ تَنَحَّى فَغَسَلَ قَدَمَيْهِ» فَالْحَدِيثُ مُشْتَمِلٌ عَلَى بَيَانِ السُّنَّةِ، وَالْفَرِيضَةِ جَمِيعًا.
وَهَلْ يَمْسَحُ رَأْسَهُ عِنْدَ تَقْدِيمِ الْوُضُوءِ عَلَى الْغُسْلِ ذُكِرَ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ أَنَّهُ يَمْسَحُ وَرَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ لَا يَمْسَحُ لِأَنَّ تَسْيِيلَ الْمَاءِ عَلَيْهِ بَعْدَ ذَلِكَ يُبْطِلُ مَعْنَى الْمَسْحِ فَلَمْ يَكُنْ فِيهِ فَائِدَةٌ بِخِلَافِ سَائِرِ الْأَعْضَاءِ لِأَنَّ التَّسْيِيلَ مِنْ بَعْدُ لَا يُبْطِلُ التَّسْيِيلَ مِنْ قَبْلُ، وَالصَّحِيحُ.
جَوَابُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ لِأَنَّ السُّنَّةَ وَرَدَتْ بِتَقْدِيمِ الْوُضُوءِ عَلَى الْإِفَاضَةِ عَلَى جَمِيعِ الْبَدَنِ عَلَى مَا رَوَيْنَا، وَالْوُضُوءُ اسْمٌ لِلْمَسْحِ، وَالْغُسْلِ جَمِيعًا إلَّا أَنَّهُ يُؤَخِّرُ غَسْلَ الْقَدَمَيْنِ لِعَدَمِ الْفَائِدَةِ فِي تَقْدِيمِ غَسْلِهِمَا لِأَنَّهُمَا يَتَلَوَّثَانِ بِالْغُسَالَاتِ مِنْ بَعْدُ، حَتَّى لَوْ اغْتَسَلَ عَلَى مَوْضِعٍ لَا يَجْتَمِعُ الْغُسَالَةُ تَحْتَ قَدَمِهِ كَالْحَجَرِ، وَنَحْوِهِ لَا يُؤَخِّرُ لِانْعِدَامِ مَعْنَى التَّلَوُّثِ، وَلِهَذَا قَالُوا فِي غُسْلِ الْمَيِّتِ: إنَّهُ يَغْسِلُ رِجْلَيْهِ عِنْدَ التَّوْضِئَةِ، وَلَا يُؤَخِّرُ غَسْلَهُمَا، لِأَنَّ الْغُسَالَةَ لَا تَجْتَمِعُ عَلَى التَّخْتِ، وَمِنْ مَشَايِخِنَا مَنْ اسْتَدَلَّ بِتَأْخِيرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غَسْلَ الرِّجْلَيْنِ عِنْدَ تَقْدِيمِ الْوُضُوءِ عَلَى الْإِفَاضَةِ عَلَى أَنَّ الْمَاءَ الْمُسْتَعْمَلَ نَجَسٌ إذْ لَوْ لَمْ يَكُنْ نَجَسًا لَمْ يَكُنْ لِلتَّحَرُّجِ عَنْ الطَّاهِرِ مَعْنَى فَجَعَلُوهُ حُجَّةَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَأَبِي يُوسُفَ عَلَى مُحَمَّدٍ وَلَيْسَ فِيهِ كَبِيرُ حُجَّةٍ، لِأَنَّ الْإِنْسَانَ كَمَا يَتَحَرَّجُ عَنْ النَّجَسِ يَتَحَرَّجُ عَنْ الْقَذَرِ خُصُوصًا الْأَنْبِيَاءُ صَلَوَاتُ اللَّهِ، وَسَلَامُهُ عَلَيْهِمْ، وَالْمَاءُ الْمُسْتَعْمَلُ قَدْ أُزِيلَ إلَيْهِ قَذَرُ الْحَدَثِ، حَتَّى تَعَافُهُ الطِّبَاعُ السَّلِيمَةُ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
(وَأَمَّا) آدَابُهُ فَمَا ذَكَرْنَا فِي الْوُضُوءِ.
وَأَمَّا بَيَانُ مِقْدَارِ الْمَاءِ الَّذِي يَغْتَسِلُ بِهِ فَقَدْ ذُكِرَ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ وَقَالَ: أَدْنَى مَا يَكْفِي فِي الْغُسْلِ مِنْ الْمَاءِ صَاعٌ، وَفِي الْوُضُوءِ مُدٌّ لِمَا رُوِيَ عَنْ جَابِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَتَوَضَّأُ بِالْمُدِّ، وَيَغْتَسِلُ بِالصَّاعِ فَقِيلَ لَهُ: إنْ لَمْ يَكْفِنَا فَغَضِبَ وَقَالَ: لَقَدْ كَفَى مَنْ هُوَ خَيْرٌ مِنْكُمْ، وَأَكْثَرُ شَعْرًا»، ثُمَّ إنَّ مُحَمَّدًا رَحِمَهُ اللَّهُ ذَكَرَ الصَّاعَ فِي الْغُسْلِ، وَالْمُدَّ فِي الْوُضُوءِ مُطْلَقًا عَنْ الْأَحْوَالِ، وَلَمْ يُفَسِّرْهُ قَالَ بَعْضُ مَشَايِخِنَا: هَذَا التَّقْدِيرُ فِي الْغُسْلِ إذَا لَمْ يَجْمَعْ بَيْنَ الْوُضُوءِ، وَالْغُسْلِ فَأَمَّا إذَا جَمَعَ بَيْنَهُمَا يَحْتَاجُ إلَى عَشْرَةِ أَرْطَالٍ رَطْلَانِ لِلْوُضُوءِ، وَثَمَانِيَةُ أَرْطَالٍ لِلْغُسْلِ.
وَقَالَ عَامَّةُ الْمَشَايِخِ إنَّ الصَّاعَ كَافٍ لَهُمَا وَرَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ قَالَ: فِي الْوُضُوءِ إنْ كَانَ الْمُتَوَضِّئُ مُتَخَفِّفًا، وَلَا يَسْتَنْجِي يَكْفِيهِ رَطْلٌ وَاحِدٌ لِغَسْلِ الْوَجْهِ، وَالْيَدَيْنِ، وَمَسْحِ الرَّأْسِ، وَإِنْ كَانَ مُتَخَفِّفًا، وَيَسْتَنْجِي يَكْفِيهِ رَطْلَانِ رَطْلٌ لِلِاسْتِنْجَاءِ وَرَطْلٌ لِلْبَاقِي، ثُمَّ هَذَا التَّقْدِيرُ الَّذِي ذَكَرَهُ مُحَمَّدٌ مِنْ الصَّاعِ، وَالْمُدِّ فِي الْغُسْلِ، وَالْوُضُوءِ لَيْسَ بِتَقْدِيرٍ لَازِمٍ بِحَيْثُ لَا يَجُوزُ النُّقْصَانُ عَنْهُ أَوْ الزِّيَادَةُ عَلَيْهِ بَلْ هُوَ بَيَانُ مِقْدَارِ أَدْنَى الْكِفَايَةِ عَادَةً حَتَّى إنَّ مَنْ أَسْبَغَ الْوُضُوءَ، وَالْغُسْلَ بِدُونِ ذَلِكَ أَجْزَأَهُ.
وَإِنْ لَمْ يَكْفِهِ زَادَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ طِبَاعَ النَّاسِ، وَأَحْوَالَهُمْ تَخْتَلِفُ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ مَا رُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «كَانَ يَتَوَضَّأُ بِثُلُثَيْ مُدٍّ» لَكِنْ يَنْبَغِي أَنْ يَزِيدَ عَلَيْهِ بِقَدْرِ مَا لَا إسْرَافَ فِيهِ لِمَا رُوِيَ: «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَرَّ عَلَى سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ، وَهُوَ يَتَوَضَّأُ، وَيَصُبُّ صَبًّا فَاحِشًا فَقَالَ: إيَّاكَ، وَالسَّرَفَ فَقَالَ: أَوَفِي الْوُضُوءِ سَرَفٌ؟ قَالَ: نَعَمْ، وَلَوْ كُنْت عَلَى ضِفَّةِ نَهْرٍ جَارٍ»، وَفِي رِوَايَةٍ: «وَلَوْ كُنْت عَلَى شَطِّ بَحْرٍ».
(وَأَمَّا) صِفَةُ الْغُسْلِ فَالْغُسْلُ قَدْ يَكُونُ فَرْضًا وَقَدْ يَكُونُ وَاجِبًا وَقَدْ يَكُونُ سُنَّةٌ وَقَدْ يَكُونُ مُسْتَحَبًّا أَمَّا الْغُسْلُ الْوَاجِبُ فَهُوَ غُسْلُ الْمَوْتَى.
وَأَمَّا السُّنَّةُ فَهُوَ غُسْلُ يَوْمِ الْجُمُعَةِ، وَيَوْمِ عَرَفَةَ، وَالْعِيدَيْنِ، وَعِنْدَ الْإِحْرَامِ، وَسَنَذْكُرُ ذَلِكَ فِي مَوْضِعِهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، وَهَاهُنَا نَذْكُرُ الْمُسْتَحَبَّ، وَالْفَرْضَ.
(أَمَّا) الْمُسْتَحَبُّ فَهُوَ غُسْلُ الْكَافِرِ إذَا أَسْلَمَ لِمَا رُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «كَانَ يَأْمُرُ بِالْغُسْلِ مَنْ جَاءَهُ يُرِيدُ الْإِسْلَامَ»، وَأَدْنَى دَرَجَاتِ الْأَمْرِ النَّدْبُ، وَالِاسْتِحْبَابُ هَذَا إذَا لَمْ يَعْرِفْ أَنَّهُ جُنُبٌ فَأَسْلَمَ فَأَمَّا إذَا عَلِمَ كَوْنَهُ جُنُبًا فَأَسْلَمَ قَبْلَ الِاغْتِسَالِ اخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ فِيهِ قَالَ بَعْضُهُمْ: لَا يَلْزَمُهُ الِاغْتِسَالُ أَيْضًا لِأَنَّ الْكُفَّارَ غَيْرُ مُخَاطَبِينَ بِشَرَائِعَ هِيَ مِنْ الْقُرُبَاتِ، وَالْغُسْلُ يَصِيرُ قُرْبَةً بِالنِّيَّةِ، فَلَا يَلْزَمُهُ وَقَالَ بَعْضُهُمْ: يَلْزَمُهُ؛ لِأَنَّ الْإِسْلَامَ لَا يُنَافِي بَقَاءَ الْجَنَابَةِ بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَا يُنَافِي بَقَاءَ الْحَدَثِ، حَتَّى يَلْزَمَهُ الْوُضُوءُ بَعْدَ الْإِسْلَامِ كَذَا الْجَنَابَةُ، وَعَلَى هَذَا غُسْلُ الصَّبِيِّ، وَالْمَجْنُونِ عِنْدَ الْبُلُوغِ، وَالْإِفَاقَةِ.
(وَأَمَّا) الْغُسْلُ الْمَفْرُوضُ فَثَلَاثَةٌ: الْغُسْلُ مِنْ الْجَنَابَةِ، وَالْحَيْضِ، وَالنِّفَاسِ أَمَّا الْجَنَابَةُ فَلِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا}، أَيْ: اغْتَسِلُوا وقَوْله تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ وَلَا جُنُبًا إلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا}، وَالْكَلَامُ فِي الْجَنَابَةِ فِي مَوْضِعَيْنِ أَحَدُهُمَا فِي بَيَانِ مَا تَثْبُتُ بِهِ الْجَنَابَةُ، وَيَصِيرُ الشَّخْصُ بِهِ جُنُبًا، وَالثَّانِي فِي بَيَانِ الْأَحْكَامِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِالْجَنَابَةِ.
(أَمَّا) الْأَوَّلُ فَالْجَنَابَةُ تَثْبُتُ بِأُمُورٍ بَعْضُهَا مُجْمَعٌ عَلَيْهِ، وَبَعْضُهَا مُخْتَلَفٌ فِيهِ.
(أَمَّا) الْمُجْمَعُ عَلَيْهِ فَنَوْعَانِ أَحَدُهُمَا خُرُوجُ الْمَنِيِّ عَنْ شَهْوَةٍ دَفْقًا مِنْ غَيْرِ إيلَاجٍ بِأَيِّ سَبَبٍ حَصَلَ الْخُرُوجُ كَاللَّمْسِ، وَالنَّظَرِ، وَالِاحْتِلَامِ، حَتَّى يَجِبَ الْغُسْلُ بِالْإِجْمَاعِ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الْمَاءُ مِنْ الْمَاءِ»، أَيْ: الِاغْتِسَالُ مِنْ الْمَنِيِّ، ثُمَّ إنَّمَا وَجَبَ غَسْلُ جَمِيعِ الْبَدَنِ بِخُرُوجِ الْمَنِيِّ، وَلَمْ يَجِبْ بِخُرُوجِ الْبَوْلِ، وَالْغَائِطِ، وَإِنَّمَا وَجَبَ غَسْلُ الْأَعْضَاءِ الْمَخْصُوصَةِ لَا غَيْرَ لِوُجُوهٍ أَحَدُهَا: أَنَّ قَضَاءَ الشَّهْوَةِ بِإِنْزَالِ الْمَنِيِّ اسْتِمْتَاعٌ بِنِعْمَةٍ يَظْهَرُ أَثَرُهَا فِي جَمِيعِ الْبَدَنِ، وَهُوَ اللَّذَّةُ فَأَمَرَ بِغَسْلِ جَمِيعِ الْبَدَنِ شُكْرًا لِهَذِهِ النِّعْمَةِ، وَهَذَا لَا يَتَقَرَّرُ فِي الْبَوْلِ، وَالْغَائِطِ، وَالثَّانِي أَنَّ الْجَنَابَةَ تَأْخُذُ جَمِيعَ الْبَدَنِ ظَاهِرَهُ، وَبَاطِنَهُ؛ لِأَنَّ الْوَطْءَ الَّذِي هُوَ سَبَبُهُ لَا يَكُونُ إلَّا بِاسْتِعْمَالٍ لِجَمِيعِ مَا فِي الْبَدَنِ مِنْ الْقُوَّةِ، حَتَّى يَضْعُفُ الْإِنْسَانُ بِالْإِكْثَارِ مِنْهُ، وَيَقْوَى بِالِامْتِنَاعِ فَإِذَا أَخَذَتْ الْجَنَابَةُ جَمِيعَ الْبَدَنِ الظَّاهِرِ، وَالْبَاطِنِ وَجَبَ غَسْلُ جَمِيعِ الْبَدَنِ الظَّاهِرِ، وَالْبَاطِنِ بِقَدْرِ الْإِمْكَانِ، وَلَا كَذَلِكَ الْحَدَثُ فَإِنَّهُ لَا يَأْخُذُ إلَّا الظَّاهِرَ مِنْ الْأَطْرَافِ، لِأَنَّ سَبَبَهُ يَكُونُ بِظَوَاهِرِ الْأَطْرَافِ مِنْ الْأَكْلِ، وَالشُّرْبِ، وَلَا يَكُونَانِ بِاسْتِعْمَالِ جَمِيعِ الْبَدَنِ فَأَوْجَبَ غَسْلَ ظَوَاهِرِ الْأَطْرَافِ لَا جَمِيعَ الْبَدَنِ، وَالثَّالِثُ أَنَّ غَسْلَ الْكُلِّ، أَوْ الْبَعْضِ وَجَبَ وَسِيلَةً إلَى الصَّلَاةِ الَّتِي هِيَ خِدْمَةُ الرَّبِّ سُبْحَانَهُ، وَتَعَالَى، وَالْقِيَامُ بَيْنَ يَدَيْهِ، وَتَعْظِيمِهِ فَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ الْمُصَلِّي عَلَى أَطْهُرْ الْأَحْوَالِ، وَأَنْظَفِهَا لِيَكُونَ أَقْرَبَ إلَى التَّعْظِيمِ، وَأَكْمَلَ فِي الْخِدْمَةِ، وَكَمَالُ النَّظَافَةِ يَحْصُلُ بِغَسْلِ جَمِيعِ الْبَدَنِ، وَهَذَا هُوَ الْعَزِيمَةُ فِي الْحَدَثِ أَيْضًا إلَّا أَنَّ ذَلِكَ مِمَّا يَكْثُرُ وُجُودُهُ فَاكْتَفَى فِيهِ بِأَيْسَرِ النَّظَافَةِ، وَهِيَ تَنْقِيَةُ الْأَطْرَافِ الَّتِي تَنْكَشِفُ كَثِيرًا، وَتَقَعُ عَلَيْهَا الْأَبْصَارُ أَبَدًا، وَأُقِيمَ ذَلِكَ مَقَامَ غَسْلِ كُلِّ الْبَدَنِ دَفْعًا لِلْحَرَجِ، وَتَيْسِيرًا فَضْلًا مِنْ اللَّهِ، وَنِعْمَةً، وَلَا حَرَجَ فِي الْجَنَابَةِ لِأَنَّهَا لَا تَكْثُرُ فَبَقِيَ الْأَمْرُ فِيهَا عَلَى الْعَزِيمَةِ، وَالْمَرْأَةُ كَالرَّجُلِ فِي الِاحْتِلَامِ لِمَا رُوِيَ عَنْ أُمِّ سُلَيْمٍ أَنَّهَا سَأَلَتْ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ الْمَرْأَةِ تَرَى فِي مَنَامِهَا مِثْلَ مَا يَرَى الرَّجُلُ فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إنْ كَانَ مِنْهَا مِثْلُ مَا يَكُونُ مِنْ الرَّجُلِ فَلْتَغْتَسِلْ».
وَرُوِيَ: «أَنَّ أُمَّ سُلَيْمٍ كَانَتْ مُجَاوِرَةً لِأُمِّ سَلَمَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا وَكَانَتْ تَدْخُلُ عَلَيْهَا فَدَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأُمُّ سُلَيْمٍ عِنْدَهَا فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ الْمَرْأَةُ إذَا رَأَتْ أَنَّ زَوْجَهَا يُجَامِعُهَا فِي الْمَنَامِ أَتَغْتَسِلُ فَقَالَتْ أُمُّ سَلَمَةَ لِأُمِّ سُلَيْمٍ تَرِبَتْ يَدَاك يَا أُمَّ سُلَيْمٍ فَضَحِكَتْ النِّسَاءُ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَتْ أُمُّ سُلَيْمٍ: إنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِ مِنْ الْحَقِّ، وَإِنَّا إنْ نَسْأَلْ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَمَّا يُشْكِلُ عَلَيْنَا خَيْرٌ مِنْ أَنْ نَكُونَ فِيهِ عَلَى عَمًى فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: بَلْ أَنْتِ يَا أُمَّ سَلَمَةَ تَرِبَتْ يَدَاك يَا أُمَّ سُلَيْمٍ عَلَيْهَا الْغُسْلُ إذَا وَجَدَتْ الْمَاءَ».
وَذَكَرَ ابْنُ رُسْتُمَ فِي نَوَادِرِهِ إذَا احْتَلَمَ الرَّجُلُ وَلَمْ يَخْرُجْ الْمَاءُ مِنْ إحْلِيلِهِ لَا غُسْلَ عَلَيْهِ وَالْمَرْأَةُ إذَا احْتَلَمَتْ وَلَمْ يَخْرُجْ الْمَاءُ إلَى ظَاهِرِ فَرْجِهَا اغْتَسَلَتْ، لِأَنَّ لَهَا فَرْجَيْنِ، وَالْخَارِجُ مِنْهُمَا لَهُ حُكْمُ الظَّاهِرِ، حَتَّى يُفْتَرَضَ إيصَالُ الْمَاءِ إلَيْهِ فِي الْجَنَابَةِ، وَالْحَيْضِ فَمِنْ الْجَائِزِ أَنَّ الْمَاءَ إذَا بَلَغَ ذَلِكَ الْمَوْضِعَ، وَلَمْ يَخْرُجْ، حَتَّى لَوْ كَانَ الرَّجُلُ أَقْلَفَ فَبَلَغَ الْمَاءُ قُلْفَتَهُ وَجَبَ عَلَيْهِ الْغُسْلُ، وَالثَّانِي إيلَاجُ الْفَرْجِ فِي الْفَرْجِ فِي السَّبِيلِ الْمُعْتَادِ سَوَاءٌ أَنْزَلَ، أَوْ لَمْ يُنْزِلْ لِمَا رُوِيَ أَنَّ الصَّحَابَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ لَمَّا اخْتَلَفُوا فِي وُجُوبِ الْغُسْلِ بِالْتِقَاءِ الْخِتَانَيْنِ بَعْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَانَ الْمُهَاجِرُونَ يُوجِبُونَ الْغُسْلَ، وَالْأَنْصَارُ لَا، بَعَثُوا أَبَا مُوسَى الْأَشْعَرِيَّ إلَى عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا فَقَالَتْ سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «إذَا الْتَقَى الْخِتَانَانِ، وَغَابَتْ الْحَشَفَةُ وَجَبَ الْغُسْلُ أَنْزَلَ، أَوْ لَمْ يُنْزِلْ» فَعَلْت أَنَا وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاغْتَسَلْنَا فَقَدْ رَوَتْ قَوْلًا، وَفِعْلًا.
وَرُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّهُ قَالَ فِي الْإِكْسَالِ يُوجِبُ الْحَدَّ أَفَلَا يُوجِبُ صَاعًا مِنْ مَاءٍ، وَلِأَنَّ إدْخَالَ الْفَرْجِ فِي الْفَرْجِ الْمُعْتَادِ مِنْ الْإِنْسَانِ سَبَبٌ لِنُزُولِ الْمَنِيِّ عَادَةً فَيُقَامُ مَقَامَهُ احْتِيَاطًا، وَكَذَا الْإِيلَاجُ فِي السَّبِيلِ الْآخَرِ حُكْمُهُ حُكْمُ الْإِيلَاجِ فِي السَّبِيلِ الْمُعْتَادِ فِي وُجُوبِ الْغُسْلِ بِدُونِ الْإِنْزَالِ أَمَّا عَلَى أَصْلِ أَبِي يُوسُفَ، وَمُحَمَّدٍ فَظَاهِرٌ، لِأَنَّهُ يُوجِبُ الْحَدَّ أَفَلَا يُوجِبُ صَاعًا مِنْ مَاءٍ.
وَأَمَّا عَلَى أَصْلِ أَبِي حَنِيفَةَ فَإِنَّمَا لَمْ يُوجِبْ الْحَدَّ احْتِيَاطًا، وَالِاحْتِيَاطُ فِي وُجُوبِ الْغُسْلِ، وَلِأَنَّ الْإِيلَاجَ فِيهِ سَبَبٌ لِنُزُولِ الْمَنِيِّ عَادَةً مِثْلَ الْإِيلَاجِ فِي السَّبِيلِ الْمُعْتَادِ، وَالسَّبَبُ يَقُومُ مَقَامَ الْمُسَبِّبِ خُصُوصًا فِي مَوْضِعِ الِاحْتِيَاطِ، وَلَا غُسْلَ فِيمَا دُونِ الْفَرْجِ بِدُونِ الْإِنْزَالِ، وَكَذَا الْإِيلَاجُ فِي الْبَهَائِمِ لَا يُوجِبُ الْغُسْلَ مَا لَمْ يُنْزِلْ، وَكَذَا الِاحْتِلَامُ؛ لِأَنَّ الْفِعْلَ فِيمَا دُونَ الْفَرْجِ، وَفِي الْبَهِيمَةِ لَيْسَ نَظِيرَ الْفِعْلِ فِي فَرْجِ الْإِنْسَانِ فِي السَّبَبِيَّةِ، وَكَذَا الِاحْتِلَامُ فَيُعْتَبَرُ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ حَقِيقَةُ الْإِنْزَالِ.
(وَأَمَّا) الْمُخْتَلَفُ فِيهِ.
(فَمِنْهَا) أَنْ يَنْفَصِلَ الْمَنِيُّ لَا عَنْ شَهْوَةٍ وَيَخْرُجُ لَا عَنْ شَهْوَةٍ بِأَنْ ضَرَبَ عَلَى ظَهْرِهِ ضَرْبًا قَوِيًّا، أَوْ حَمَلَ حَمْلًا ثَقِيلًا، فَلَا غُسْلَ فِيهِ عِنْدَنَا، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ فِيهِ الْغُسْلُ، وَاحْتَجَّ بِمَا رَوَيْنَا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «الْمَاءُ مِنْ الْمَاءِ» أَيْ: الِاغْتِسَالُ مِنْ الْمَنِيِّ مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ.
(وَلَنَا) مَا رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ «سُئِلَ عَنْ الْمَرْأَةِ تَرَى فِي الْمَنَامِ يُجَامِعُهَا زَوْجُهَا فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَتَجِدُ لَذَّةً؟ فَقِيلَ: نَعَمْ فَقَالَ: عَلَيْهَا الِاغْتِسَالُ إذَا وَجَدَتْ الْمَاءَ»، وَلَوْ لَمْ يَخْتَلِفْ الْحُكْمُ بِالشَّهْوَةِ، وَعَدَمِهَا لَمْ يَكُنْ لِلسُّؤَالِ عَنْ اللَّذَّةِ مَعْنًى؛ وَلِأَنَّ وُجُوبَ الِاغْتِسَالِ مُعَلَّقٌ بِنُزُولِ الْمَنِيِّ، وَأَنَّهُ فِي اللُّغَةِ اسْمٌ لِلْمُنْزَلِ عَنْ شَهْوَةٍ لِمَا نَذْكُرُ فِي تَفْسِيرِ الْمَنِيِّ.
وَأَمَّا الْحَدِيثُ فَالْمُرَادُ مِنْ الْمَاءِ الْمَاءُ الْمُتَعَارَفُ، وَهُوَ الْمُنْزَلُ عَنْ شَهْوَةٍ لِانْصِرَافِ مُطْلَقِ الْكَلَامِ إلَى الْمُتَعَارَفِ.
(وَمِنْهَا) أَنْ يَنْفَصِلَ الْمَنِيُّ عَنْ شَهْوَةٍ وَيَخْرُجُ لَا عَنْ شَهْوَةٍ، وَأَنَّهُ يُوجِبُ الْغُسْلَ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَمُحَمَّدٍ.
وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ لَا يُوجِبُ فَالْمُعْتَبَرُ عِنْدَهُمَا الِانْفِصَالُ عَنْ شَهْوَةٍ، وَعِنْدَهُ الْمُعْتَبَرُ هُوَ الِانْفِصَالُ مَعَ الْخُرُوجِ عَنْ شَهْوَةٍ، وَفَائِدَتُهُ تَظْهَرُ فِي مَوْضِعَيْنِ أَحَدُهُمَا إذَا احْتَلَمَ الرَّجُلُ فَانْتَبَهَ وَقَبَضَ عَلَى عَوْرَتِهِ، حَتَّى سَكَنَتْ شَهْوَتُهُ، ثُمَّ خَرَجَ الْمَنِيُّ بِلَا شَهْوَةٍ، وَالثَّانِي إذَا جَامَعَ فَاغْتَسَلَ قَبْلَ أَنْ يَبُولَ، ثُمَّ خَرَجَ مِنْهُ بَقِيَّةُ الْمَنِيِّ وَجْهُ قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ أَنَّ جَانِبَ الِانْفِصَالِ يُوجِبُ الْغُسْلَ وَجَانِبَ الْخُرُوجِ يَنْفِيهِ، فَلَا يَجِبُ مَعَ الشَّكِّ، وَلَهُمَا أَنَّهُ إذَا احْتَمَلَ الْوُجُوبَ، وَالْعَدَمَ فَالْقَوْلُ بِالْوُجُوبِ أَوْلَى احْتِيَاطًا.
(وَمِنْهَا) أَنَّهُ إذَا اسْتَيْقَظَ فَوَجَدَ عَلَى فَخِذِهِ أَوْ عَلَى فِرَاشِهِ بَلَلًا عَلَى صُورَةِ الْمَذْيِ وَلَمْ يَتَذَكَّرْ الِاحْتِلَامَ فَعَلَيْهِ الْغُسْلُ، فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَمُحَمَّدٍ وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ لَا يَجِبُ، وَأَجْمَعُوا أَنَّهُ لَوْ كَانَ مَنِيًّا أَنَّ عَلَيْهِ الْغُسْلُ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّهُ عَنْ احْتِلَامٍ، وَأَجْمَعُوا أَنَّهُ إنْ كَانَ وَدْيًا لَا غُسْلَ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ بَوْلٌ غَلِيظٌ.
وَعَنْ الْفَقِيهِ أَبِي جَعْفَرٍ الْهِنْدُوَانِيُّ أَنَّهُ إذَا وَجَدَ عَلَى فِرَاشِهِ مَنِيًّا فَهُوَ عَلَى الِاخْتِلَافِ، وَكَانَ يَقِيسُهُ عَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنْ الْمَسْأَلَتَيْنِ وَجْهُ قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ أَنَّ الْمَذْيَ يُوجِبُ الْوُضُوءَ دُونَ الِاغْتِسَالِ، وَلَهُمَا مَا رَوَى إمَامُ الْهُدَى الشَّيْخُ أَبُو مَنْصُورٍ الْمَاتُرِيدِيُّ السَّمَرْقَنْدِيُّ بِإِسْنَادِهِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «إذَا رَأَى الرَّجُلُ بَعْدَ مَا يَنْتَبِهُ مِنْ نَوْمِهِ بَلَّةً، وَلَمْ يَذْكُرْ احْتِلَامًا اغْتَسَلَ، وَإِنْ رَأَى احْتِلَامًا، وَلَمْ يَرَ بَلَّةً، فَلَا غُسْلَ عَلَيْهِ»، وَهَذَا نَصٌّ فِي الْبَابِ، وَلِأَنَّ الْمَنِيَّ قَدْ يَرِقُّ بِمُرُورِ الزَّمَانِ فَيَصِيرُ فِي صُورَةِ الْمَذْيِ وَقَدْ يَخْرُجُ ذَائِبًا لِفَرْطِ حَرَارَةِ الرَّجُلِ، أَوْ ضَعْفِهِ فَكَانَ الِاحْتِيَاطُ فِي الْإِيجَابِ ثُمَّ الْمَنِيُّ خَاثِرٌ أَبْيَضُ يَنْكَسِرُ مِنْهُ الذَّكَرُ.
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ فِي كِتَابِهِ: إنَّ لَهُ رَائِحَةَ الطَّلْعِ، وَالْمَذْيُ رَقِيقٌ يَضْرِبُ إلَى الْبَيَاضِ يَخْرُجُ عِنْدَ مُلَاعَبَةِ الرَّجُلِ أَهْلَهُ، وَالْوَدْيُ رَقِيقٌ يَخْرُجُ بَعْدَ الْبَوْلِ، وَكَذَا رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّهَا فَسَرَّتْ هَذِهِ الْمِيَاهَ بِمَا ذَكَرْنَا وَلَا غُسْلَ فِي الْوَدْيِ وَالْمَذْيِ أَمَّا الْوَدْيُ فَلِأَنَّهُ بَقِيَّةُ الْبَوْلِ، وَأَمَّا الْمَذْيُ فَلِمَا رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: «كُنْت فَحْلًا مَذَّاءً فَاسْتَحْيَيْت أَنْ أَسْأَلَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِمَكَانِ ابْنَتِهِ تَحْتِي فَأَمَرْت الْمِقْدَادَ بْنَ الْأَسْوَدِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَسَأَلَهُ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كُلُّ فَحْلٍ يُمْذِي، وَفِيهِ الْوُضُوءُ» نَصَّ عَلَى الْوُضُوءِ، وَأَشَارَ إلَى نَفْيِ وُجُوبِ الِاغْتِسَالِ بِعِلَّةِ كَثْرَةِ الْوُقُوعِ بِقَوْلِهِ كُلُّ فَحْلٍ يُمْذِي.
(وَأَمَّا) الْأَحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالْجَنَابَةِ فَمَا لَا يُبَاحُ لِلْمُحْدِثِ فِعْلُهُ مِنْ مَسِّ الْمُصْحَفِ بِدُونِ غِلَافِهِ، وَمَسِّ الدَّرَاهِمِ الَّتِي عَلَيْهَا الْقُرْآنُ، وَنَحْوِ ذَلِكَ لَا يُبَاحُ لِلْجُنُبِ مِنْ طَرِيقِ الْأَوْلَى لِأَنَّ الْجَنَابَةَ أَغْلَظُ الْحَدَثَيْنِ، وَلَوْ كَانَتْ الصَّحِيفَةُ عَلَى الْأَرْضِ فَأَرَادَ الْجُنُبُ أَنْ يَكْتُبَ الْقُرْآنَ عَلَيْهَا رُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ لَا بَأْسَ، لِأَنَّهُ لَيْسَ بِحَامِلٍ لِلصَّحِيفَةِ، وَالْكِتَابَةُ تُوجَدُ حَرْفًا حَرْفًا.
وَهَذَا لَيْسَ بِقُرْآنٍ وَقَالَ مُحَمَّدٌ أَحَبُّ إلَيَّ أَنْ لَا يَكْتُبَ، لِأَنَّ كِتَابَةَ الْحُرُوفِ تَجْرِي مَجْرَى الْقِرَاءَةِ.
وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ لَا يَتْرُكُ الْكَافِرَ أَنْ يَمَسَّ الْمُصْحَفَ لِأَنَّ الْكَافِرَ نَجَسٌ فَيَجِبُ تَنْزِيهُ الْمُصْحَفِ عَنْ مَسِّهِ.
وَقَالَ مُحَمَّدٌ لَا بَأْسَ بِهِ إذَا اغْتَسَلَ؛ لِأَنَّ الْمَانِعَ هُوَ الْحَدَثُ وَقَدْ زَالَ بِالْغُسْلِ، وَإِنَّمَا بَقِيَ نَجَاسَةُ اعْتِقَادِهِ، وَذَلِكَ فِي قَلْبِهِ لَا فِي يَدِهِ، وَلَا يُبَاحُ لِلْجُنُبِ قِرَاءَةُ الْقُرْآنِ عِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ وَقَالَ مَالِكٌ يُبَاحُ لَهُ ذَلِكَ وَجْهُ قَوْلِهِ إنَّ الْجَنَابَةَ أَحَدُ الْحَدَثَيْنِ فَيُعْتَبَرُ بِالْحَدَثِ الْآخَرِ، وَأَنَّهُ لَا يَمْنَعُ مِنْ الْقِرَاءَةِ كَذَا الْجَنَابَةُ.
(وَلَنَا) مَا رُوِيَ: «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ لَا يَحْجِزُهُ شَيْءٌ عَنْ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ إلَّا الْجَنَابَةُ»، وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «لَا تَقْرَأُ الْحَائِضُ، وَلَا الْجُنُبُ شَيْئًا مِنْ الْقُرْآنِ»، وَمَا ذُكِرَ مِنْ الِاعْتِبَارِ فَاسِدٌ، لِأَنَّ أَحَدَ الْحَدَثَيْنِ حَلَّ الْفَمَ، وَلَمْ يَحِلَّ الْآخَرَ، فَلَا يَصِحُّ اعْتِبَارُ أَحَدِهِمَا بِالْآخَرِ، وَيَسْتَوِي فِي الْكَرَاهَةِ الْآيَةُ التَّامَّةُ، وَمَا دُونَ الْآيَةِ عِنْدَ عَامَّةِ الْمَشَايِخِ وَقَالَ الطَّحَاوِيُّ: لَا بَأْسَ بِقِرَاءَةِ مَا دُونَ الْآيَةِ، وَالصَّحِيحُ قَوْلُ الْعَامَّةِ لِمَا رَوَيْنَا مِنْ الْحَدِيثَيْنِ مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ بَيْنَ الْقَلِيلِ، وَالْكَثِيرِ، وَلِأَنَّ الْمَنْعَ مِنْ الْقِرَاءَةِ لِتَعْظِيمِ الْقُرْآنِ، وَمُحَافَظَةً عَلَى حُرْمَتِهِ، وَهَذَا لَا يُوجِبُ الْفَصْلَ بَيْنَ الْقَلِيلِ، وَالْكَثِيرِ فَيُكْرَهُ ذَلِكَ كُلُّهُ لَكِنْ إذَا قَصَدَ التِّلَاوَةَ.
فَأَمَّا إذَا لَمْ يَقْصِدْ بِأَنْ قَالَ: بِاسْمِ اللَّهِ لِافْتِتَاحِ الْأَعْمَالِ تَبَرُّكًا، أَوْ قَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ لِلشُّكْرِ لَا بَأْسَ بِهِ لِأَنَّهُ مِنْ بَابِ ذِكْرِ اسْمِ اللَّهِ تَعَالَى، وَالْجُنُبُ غَيْرُ مَمْنُوعٍ عَنْ ذَلِكَ، وَتُكْرَهُ قِرَاءَةُ الْقُرْآنِ فِي الْمُغْتَسَلِ وَالْمَخْرَجِ، لِأَنَّ ذَلِكَ مَوْضِعُ الْأَنْجَاسِ.
فَيَجِبُ تَنْزِيهُ الْقُرْآنِ عَنْ ذَلِكَ، وَأَمَّا فِي الْحَمَّامِ فَتُكْرَهُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَأَبِي يُوسُفَ وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ لَا تُكْرَهُ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْمَاءَ الْمُسْتَعْمَلَ نَجَسٌ عِنْدَهُمَا فَأَشْبَهَ الْمُخْرَجَ.
وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ طَاهِرٌ، فَلَا تُكْرَهُ وَلَا يُبَاحُ لِلْجُنُبِ دُخُولُ الْمَسْجِدِ، وَإِنْ احْتَاجَ إلَى ذَلِكَ يَتَيَمَّمُ، وَيَدْخُلُ سَوَاءٌ كَانَ الدُّخُولُ لِقَصْدِ الْمُكْثِ أَوْ لِلِاجْتِيَازِ عِنْدَنَا وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: يُبَاحُ لَهُ الدُّخُولُ بِدُونِ التَّيَمُّمِ إذَا كَانَ مُجْتَازًا، وَاحْتَجَّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ وَلَا جُنُبًا إلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا} قِيلَ: الْمُرَادُ مِنْ الصَّلَاةِ مَكَانُهَا، وَهُوَ الْمَسْجِدُ كَذَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَعَابِرُ سَبِيلٍ هُوَ الْمَارُّ يُقَالُ: عَبَرَ، أَيْ: مَرَّ نَهْيُ الْجُنُبِ عَنْ دُخُولِ الْمَسْجِدِ بِدُونِ الِاغْتِسَالِ.
وَاسْتَثْنَى عَابِرِي السَّبِيلِ، وَحُكْمُ الْمُسْتَثْنَى يُخَالِفُ حُكْمَ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ فَيُبَاحُ لَهُ الدُّخُولُ بِدُونِ الِاغْتِسَالِ.
(وَلَنَا) مَا رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «سُدُّوا الْأَبْوَابَ فَإِنِّي لَا أُحِلُّهَا لِجُنُبٍ، وَلَا لِحَائِضٍ»، وَالْهَاءُ كِنَايَةٌ عَنْ الْمَسَاجِدِ نَفَى الْحِلَّ مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ بَيْنَ الْمُجْتَازِ، وَغَيْرِهِ.
وَأَمَّا الْآيَةُ فَقَدْ رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ، وَابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ الْمُرَادَ هُوَ حَقِيقَةُ الصَّلَاةِ، وَأَنَّ عَابِرَ السَّبِيلِ هُوَ الْمُسَافِرُ الْجُنُبُ الَّذِي لَا يَجِدُ الْمَاءَ فَيَتَيَمَّمُ فَكَانَ هَذَا إبَاحَةَ الصَّلَاةِ بِالتَّيَمُّمِ لِلْجُنُبِ الْمُسَافِرِ إذَا لَمْ يَجِدْ الْمَاءَ، وَبِهِ نَقُولُ: وَهَذَا التَّأْوِيلُ أَوْلَى لِأَنَّ فِيهِ بَقَاءَ اسْمِ الصَّلَاةِ عَلَى حَالِهَا فَكَانَ أَوْلَى، أَوْ يَقَعُ التَّعَارُضُ بَيْنَ التَّأْوِيلَيْنِ، فَلَا تَبْقَى الْآيَةُ حُجَّةً لَهُ، وَلَا يَطُوفُ بِالْبَيْتِ، وَإِنْ طَافَ جَازَ مَعَ النُّقْصَانِ لِمَا ذَكَرْنَا فِي الْمُحْدِثِ إلَّا أَنَّ النُّقْصَانَ مَعَ الْجَنَابَةِ أَفْحَشُ لِأَنَّهَا أَغْلَظُ، وَيَصِحُّ مِنْ الْجُنُبِ أَدَاءُ الصَّوْمِ دُونَ الصَّلَاةِ، لِأَنَّ الطَّهَارَةَ شَرْطُ جِوَازِ الصَّلَاةِ دُونَ الصَّوْمِ، وَيَجِبُ عَلَيْهِ كِلَاهُمَا، حَتَّى يَجِبَ عَلَيْهِ قَضَاؤُهُمَا بِالتَّرْكِ، لِأَنَّ الْجَنَابَةَ لَا تَمْنَعُ مِنْ وُجُوبِ الصَّوْمِ بِلَا شَكٍّ، وَيَصِحُّ أَدَاؤُهُ مَعَ الْجَنَابَةِ، وَلَا يُمْنَعُ مِنْ وُجُوبِ الصَّلَاةِ أَيْضًا.
وَإِنْ كَانَ لَا يَصِحُّ أَدَاؤُهَا مَعَ قِيَامِ الْجَنَابَةِ، لِأَنَّ فِي وُسْعِهِ رَفْعَهَا بِالْغُسْلِ قَبْلَ أَنْ يَتَوَضَّأَ، وَلَا بَأْسَ لِلْجُنُبِ أَنْ يَنَامَ وَيُعَاوِدَ أَهْلَهُ لِمَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ «أَيَنَامُ أَحَدُنَا، وَهُوَ جُنُبٌ قَالَ: نَعَمْ، وَيَتَوَضَّأُ وُضُوءَهُ لِلصَّلَاةِ»، وَلَهُ أَنْ يَنَامَ قَبْلَ أَنْ يَتَوَضَّأَ وُضُوءَهُ لِلصَّلَاةِ لِمَا رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّهَا قَالَتْ: «كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَنَامُ، وَهُوَ جُنُبٌ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَمَسَّ مَاءً»، وَلِأَنَّ الْوُضُوءَ لَيْسَ بِقُرْبَةٍ بِنَفْسِهِ، وَإِنَّمَا هُوَ لِأَدَاءِ الصَّلَاةِ، وَلَيْسَ فِي النَّوْمِ ذَلِكَ، وَإِنْ أَرَادَ أَنْ يَأْكُلَ، أَوْ يَشْرَبَ فَيَنْبَغِي أَنْ يَتَمَضْمَضَ، وَيَغْسِلَ يَدَيْهِ.
ثُمَّ يَأْكُلَ، وَيَشْرَبَ، لِأَنَّ الْجَنَابَةَ حَلَّتْ الْفَمَ فَلَوْ شَرِبَ قَبْلَ أَنْ يَتَمَضْمَضَ صَارَ الْمَاءُ مُسْتَعْمَلًا فَيَصِيرُ شَارِبًا بِالْمَاءِ الْمُسْتَعْمَلِ، وَيَدُهُ لَا تَخْلُو عَنْ نَجَاسَةٍ فَيَنْبَغِي أَنْ يَغْسِلَهَا، ثُمَّ يَأْكُلَ وَهَلْ يَجِبُ عَلَى الزَّوْجِ ثَمَنُ مَاءِ الِاغْتِسَالِ اخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ فِيهِ قَالَ بَعْضُهُمْ: لَا يَجِبُ سَوَاءٌ كَانَتْ الْمَرْأَةُ غَنِيَّةً أَوْ فَقِيرَةً غَيْرَ أَنَّهَا إنْ كَانَتْ فَقِيرَةً يُقَالُ: لِلزَّوْجِ إمَّا أَنْ تَدَعَهَا حَتَّى تَنْتَقِلَ إلَى الْمَاءِ، أَوْ تَنْقُلَ الْمَاءَ إلَيْهَا وَقَالَ بَعْضُهُمْ: يَجِبُ، وَهُوَ قَوْلُ الْفَقِيهِ أَبِي اللَّيْثِ رَحِمَهُ اللَّهُ، لِأَنَّهُ لابد لَهَا مِنْهُ فَنُزِّلَ مَنْزِلَةَ الْمَاءِ الَّذِي لِلشُّرْبِ، وَذَلِكَ عَلَيْهِ كَذَا هَذَا.
(وَأَمَّا) الْحَيْضُ فَلِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ} أَيْ: يَغْتَسِلْنَ وَلِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلْمُسْتَحَاضَةِ: «دَعِي الصَّلَاةَ أَيَّامَ أَقْرَائِك» أَيْ: أَيَّامَ حَيْضِك ثُمَّ اغْتَسِلِي، وَصَلِّي، وَلَا نَصَّ فِي وُجُوبِ الْغُسْلِ مِنْ النِّفَاسِ، وَإِنَّمَا عُرِفَ بِإِجْمَاعِ الْأُمَّةِ، ثُمَّ إجْمَاعُ الْأُمَّةِ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بِنَاءً عَلَى خَبَرٍ مِنْ الْبَابِ.
لَكِنَّهُمْ تَرَكُوا نَقْلَهُ اكْتِفَاءً بِالْإِجْمَاعِ عَنْ نَقْلِهِ لِكَوْنِ الْإِجْمَاعِ أَقْوَى، وَيَجُوزُ أَنَّهُمْ قَاسُوا عَلَى دَمِ الْحَيْضِ لِكَوْنِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا دَمًا خَارِجًا مِنْ الرَّحِمِ فَبَنَوْا الْإِجْمَاعَ عَلَى الْقِيَاسِ إذْ الْإِجْمَاعُ يَنْعَقِدُ عَنْ الْخَبَرِ، وَعَنْ الْقِيَاسِ عَلَى مَا عُرِفَ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ.